التنوير بين الدين والفلسفة
حسن العاصي/ كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك
عبر التاريخ، وعلى امتداد العصور، ظهر صراعاً جدلياً بين العقل الديني والعقل الفلسفي. هذا الجدال والتناحر بين الفلسفة والدين أسهم في رقي الحضارة العربية والإسلامية، وبلوغها العصر الذهبي، حيث كان لبعض الخلفاء والولاة دوراً مهماً في رعاية الفكر والفلسفة والعلوم والآداب. كان هؤلاء يعقدون المجالس العلمية للنقاش والسجال الفكري والفلسفي والديني، في فترة شكلت الحضارة الإسلامية شعاعاً علمياً وفكرياً لكافة البشرية.
في مرحلة ما من التاريخ الإسلامي، عقب نقاش قضية “خلق القرآن” في مجالس العلم، التي بدأت في عصر الخليفة العباسي “المأمون” عام 218هـ/833م واستمرت في عهد المعتصم والواثق وانتهت مع حفيد المأمون “المتوكل” عام 247هـ/861م، اشتد الخلاف بين المتحاورين وهما المعتزلة وأهل السنة.
احتدام الجدل والخلاف بين الاتجاهين تجاوز مقياس المناظرة والنقاش نحو وضع تم فيه اللجوء إلى قمع المخالفين وسجنهم، بل وقتل بعضهم.
حين توقف هذا الجدل غُيبت الفلسفة، وتم إغلاق باب الاجتهاد. وبدأ الفكر العربي والإسلامي مرحلة جديدة من أهم سماتها، الأحادية والتكرار والتقليد ثم الجمود. بغياب الفلسفة أصبح الفكر العربي والإسلامي يتيماً وفقيراً، دون استفزاز وبلا فلسفة تدفعه لعدم الطمأنينة والسكون، وتجبره على النضوج والتطور.
وما أن فرضت كلا المؤسستين الدينية والسياسية هيمنتها على المشهد، تم تكفير الفلسفة وزندقتها، وبدأ عصر التضييق على المفكرين والفلاسفة واضطهادهم وقتلهم، ثم انزلقت الدولة الإسلامية نحو قاع التناحر الديني ـ الديني، والصراعات المذهبية والفئوية التي أدت إلى ضعفها ثم انهيارها، وما أعقب ذلك من نكوص فلسفي وارتداد فكري عميق، وفشل علمي وحضاري مرعب، بسبب غياب الفلسفة، وانحسار العقل التنويري الجدلي. ثم ساد الظلام والجهل، وانتشر الهراء حتى اللحظة.
الانسداد التاريخي التنويري العربي
يلاحظ المرء نجاح تجربة التنوير في كثير من بقاع الأرض، في أوروبا، في الولايات المتحدة، في اليابان وسنغافورة، وفي تركيا أيضاً الدولة المسلمة، لكنها فشلت بصورة معيبة في نسختها العربية، وسقط التنوير في قعر الظلام العربي سقوطاً مدحوراً.
من أهم وأبرز أسباب فشل التنوير العربي والإسلامي غياب الانفتاح والحريات الفكرية بصورة مطلقة. في غياب الحريات والتعدد، تحضر الحقائق المطلقة دون غيرها، والفكر الواحد المطلق، والعقيدة الواحدة المطلقة. المذهب الواحد والراي الواحد واللون الواحد والذوق الواحد. ويتحكم في رقاب العباد الحزب الواحد والطائفة الواحدة والطاغي الأوحد. وبالتالي النتيجة استعصاء وانسداد فكري وتاريخي تعاني منه الأمتين الإسلامية والعربية منذ القرن الثاني عشر، بعد أن فقدنا آخر الفاتحين الفكريين العرب الفيلسوف التنويري “ابن رشد”.
نتيجة لأسباب متعددة من بينها قمع وإقصاء المخالفين، والاستبداد الذي يكون سمة الرأي الواحد وبروز الصراعات والتناحر القبلي، بدأت تظهر الدويلات الإسلامية في المشرق العربي، والطوائف بالدولة الإسلامية في الأندلس.
ظهر الأدارسة في المغرب “788-974م” والأغالبة في شمال إفريقيا “800-909” والطولونيون في مصر “868-905م” والأيوبيون في مصر والشام والعراق “1171- 1342م” والمماليك في مصر وبلاد الشام والعراق والجزيرة العربية “1250- 1517م” والمرابطون في المغرب “1060-1147م” ثم الموحدون أيضاً “1147-1269م” وغيرهم من الطوائف مثل دويلات الأندلس “قرطبة، إشبيلية، طليطلة، سرقسطة”
سقطت الدولة العباسية نتيجة الغزو المغولي قيادة “هولاكو” للعالم الإسلامي، وسقوط مدينة بغداد عام 1258م وقتل الخليفة العباسي “المعتصم بالله” مع ولديه بعد أن هرب إلى مصر.
دمر المغول بيت الحكمة في بغداد وإحراقه وإتلاف آلاف الكتب والمخطوطات لمختلف العلوم من طب وفلك وكيمياء، ودمروا المنشآت العمرانية لبغداد.
ثم قام “عثمان الأول بن أرطغرل” بتأسيس الدولة الإسلامية العثمانية عام 1299م. وبدءًا من العام 1512 اتجهت الدولة العثمانية نحو الوطن العربي في عهد السلطان سليم الأول، وفرضت حكمها على بلاد الشام والحجاز واليمن ومصر والعراق. استمرت الدولة العثمانية لغاية العام 1923م.
تم تقسيم العالم العربي كمناطق نفوذ بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى “بريطانيا، فرنسا، إيطاليا”. نالت مصر استقلالها كأول دولة عربية عن الاستعمار البريطاني عام 1922 رغم أن النفوذ البريطاني ظل مهيمناً لغاية خمسينيات القرن العشرين. وفي العام 1971 نالت الإمارات العربية المتحدة هذا الاستقلال كآخر دولة.
في التاريخ الإسلامي تم إغلاق أبواب الاجتهاد من قبل الخلفاء والأمراء المسلمين، من بينهم الخليفة العباسي “المتوكل بالله” 847ـ861 م الذي اعتبر أن “ما قرره الخلف لا يرفضه السلف”. وكان المتوكل قد وصل إلى الحكم بعد ثلاثة من الخلفاء بدأت معهم محنة خلق القرآن ـ المأمون، ثم المعتصم، ثم الواثق ـ وخلال تلك الفترة كان المعتزلة قد أصبحوا مذهباً لهم محبين ومريدين. ثم أغلقت أبواب الاجتهاد أيضاً في عصر الخليفة “المعتصم بالله” آخر الخلفاء العباسيين، حيث أعلن أنه “لا اجتهاد مع النص”. هذا الإجراء مناقض لفقه الشريعة ذاتها وابديتها وتجددها على مر العصور.
إن إغلاق باب الاجتهاد قد أدى إلى موت العلوم الطبيعية، وقتل الفلسفة، وإطلاق الرصاص على العقل. فتحول الدين الإسلامي إلى مجموعة من الدراويش يعتكفون للعبادات في التكايا.
وفي معظم الفترات التاريخية كانت الصراعات السياسية والطائفية والمذهبية هي السمة الغالبة على العالمين العربي والإسلامي، وكانا في عزلة عما يجري في القارة الأوروبية من تفاعلات فكرية وعلمية.
إذن كان العالمين العربي والإسلامي في حالة سبات فكري عميق، وشلل عقلي طوال ما يقرب من ثمانية قرون. لا يمكن أن يؤدي هذا الحال إلا إلى الاستعصاء المرعب الذي نعاني منه حالياً.
مع ازدياد الصراع بين الديني والفكري، تشدد الدين وأصبح أكثر تحفظاً. ثم تراجع دور الطبقة البرجوازية التجارية العربية والإسلامية، وانحسر النشاط التجاري نتيجة انتشار قطّاع الطرق، فأصبحت دروب التجارة غير آمنة، مما أسهم أيضاً في تراجع التفكير العقلاني الذي كان يمثله التجار كونهم الطبقة المتوسطة التي كانت تصدر وتستورد الأفكار، وهي التي دعمت الفرق الفلسفية العقلانية مثل المعتزلة وإخوان الصفا. إضافة إلى أن التجار المسلمين لعبوا دوراً محورياً في التبادل والتلاقح الثقافي بين المسلمين والأمم الأخرى.
الإصلاح المسيحي
في عام 1517 أصدر البابا “ليون العاشر” مرسوماً يتضمن غفراناً عاماً لجميع المسيحيين في جميع أنحاء المعمورة. كانت الغاية من المرسوم جباية الأموال اللازمة لإتمام بناء كنيسة “القديس بطرس” في روما. هذا الوضع كشف عن العديد من الأساقفة الفاسدين الذين كانوا يبيعون صكوك الغفران لحسابهم الخاص.
في ذلك الوقت كان “مارتين لوثر” استاذاً لعلوم الدين وراعياً لكنيسة “ويتبرج”. لاحظ الراهب أن رعايا الكنيسة أصبحوا يقدمون له صكوك الغفران، بديلاً عن الاعتراف بخطاياهم، وإبداء الندم والتوبة كما كان يحصل عادة. وأوضح “لوثر” أن الإيمان وفعل الخير هما الشرط للغفران الإلهي، وليس شراء النعيم بالذهب.
في لحظات غضب وحماس قام “لوثر” بتاريخ 31 تشرين الأول عام 1517 بتعليق احتجاجه المكون من خمسة وتسعين بنداً على باب كنيسة “ويتبرج” داعياً الكنيسة الكاثوليكية وقف أعمال بيع الغفران.
كتب احتجاجه باللغة اللاتينية، موجهاً إلى علماء الدين لمناقشتهم حول كون غفران الخطايا يمنح لكل مسيحي يتوب ويندم دون الحاجة إلى شراء صك غفران. لكن سرعان ما تمت ترجمة الاحتجاج إلى اللغة الألمانية، وانتشر بين عامة الناس في كافة أنحاء ألمانيا، ثم في العالم المسيحي أجمع.
رفض “لوثر” الاستجابة لطلب البابا “ليون العاشر” الحضور إلى روما لمحاكمته. ورفض الأمير “فريدريك” والي مقاطعة “ساكسونيا” تسليم “الهرطقي” إلى روما. كما فشلت مساعي الرسل الذين بعثهم البابا في اقناع “لوثر” التراجع عن مواقفه.
عقب ذلك أصدر البابا في 15 حزيران عام 1520 مرسوما يقضي بحرمان لوثر من حقوقه وإحراق جميع كتبه، ما لم يسحب تعاليمه ويلتمس رحمة البابا خلال ستين يوما.
كانت قلوب معظم الألمان مع لوثر، فأدرك أن الوقت مناسب لإعلان انسحابه من الكنيسة ومقاومة سلطتها علانية. ثم قام بحرق القانون البابوي وبعض مؤلفات الكنيسة على مرأى من الجماهير الغفيرة التي التفت حوله. ثم أعلن تمرده على سلطة البابوية واعتبر أنها ليست ذات مصدر إلهي، إنما هي سلطة دينية سياسية اقتصادية من ابتكار البشر، وطالب بحرية الفرد في الدين.
حركة الإصلاح الديني التي قادها “لوثر” قامت على أفكار محاربة الغفران، ورفض سلطة البابا المطلقة، وانتقاد شراء المناصب الدينية. بمرور الوقت أصبح أتباع البروتستانتية ـ المعارضة لسلطة البابا ـ هم الأغلبية في ألمانيا، مما دفع الكنيسة الكاثوليكية إلى إقامة محاكم التفتيش المرعبة ضد المعارضين. تولت هذه المحاكم مهمة ردع الناس عن الخروج على الكاثوليكية. هذه المحاكم قامت بإبادة الناس عبر الخنق والحرق والإغراق والإعدام شنقاً، واستخدمت أساليب تعذيب شنيعة ورهيبة. ثم انقسم العالم المسيحي إلى كاثوليك وبروتستانت.
وبعد ما يقرب من مئة عام على الإصلاح وانقسام الكنيسة، ونشوء صراع كبير بين الكاثوليك والبروتستانت، ومن أجل حقوقهم الدينية، هاجم النبلاء البروتستانت في الثالث والعشرين من أيار/مايو عام 1618 برج براغ، الذي يقطنه والي القيصر الألماني “ماتياس” الذي سبق وأن أصدر قرارات لتقليص حقوق البروتستانت الدينية في الإمبراطورية الألمانية، وكانوا يطالبون بالحرية الدينية. هذا الفعل الثوري الذي سجله التاريخ كان بداية التمرد البروتستانتي، ثم سعى القيصر الألماني لإخماده، مما تسبب في حرب الثلاثين عاماً، وانهيار أوروبا الوسطى كاملة، وشكلت الحرب صدمة للقارة، وخلّفت ندوباً عميقة استمرت لعقود متتالية.
الحرب خلفت تسعة مليون قتيل، حيث تم القضاء على ثلث السكان الألمان، وانهارت الدولة، وأعادت الحرب البلاد إلى الخلف بعقود من الزمن، وشكلت نقطة فاصلة في وعي الناس..
مع انتهاء حرب الثلاثين عاماُ انتهت الأصولية الدينية المسيحية إلى غير عودة. ومهدت الطريق أمام ولادة عصر التنوير. انتهت فكرة الامتلاك والفهم الأحادي للدين كما كان يدعي كل فريق، وانتهت الاتهامات بالانحراف والضلالة والهرطقة والزندقة التي كان يوجهها كل طرف للآخر، تماماً كما تفعل المذاهب الإسلامية والطوائف في عصرنا الحالي. وكان الكهنة والقساوسة يحشدون المتدينين البسطاء من عامة الناس، وتهييجهم على بعضهم البعض ودفعهم لارتكاب المذابح باسم الدين، كما يفعل بعض رجال الدين المسلمين اليوم.
الانتقال لمرحلة العقل
بعد القرون التي عاشها الأوروبيون تحت سيطرة الكنيسة ورجال الدين الذين مارسوا ظلماً واستبداداً، حيث كان يسود الجهل والخرافات، وتحقير العلم والعلماء. في القرن السابع عشر تشكلت حركة فكرية رفعت شعار استخدام العقل مرجعاً رئيسياً للحياة بدلاً من الدين. جاء التمرد نتيجة طبيعية دموية للظلم. وظهر الفكر التحرري الذي دعا إلى إعلاء العقل والمنطق على الخرافة.
حينها تقدم عدداً من المفكرين والفلاسفة التنويريين لتفكيك العقيدة اللاهوتية المسيحية ومناقشتها علناً. وهذا ما فعله دينيس ديديرو، وفولتير، وجان جاك روسو، وهم فلاسفة ربوبيين وليسوا ملحدين. وكذلك فعل رينيه ديكارت، فرنسيس بيكون، جان بول سارتر، إيمانويل كانت، فريدريك نيتشه، جون لوك، كارل ماركس. وأسس لنشوء الرأسمالية والعلمانية فيما بعد.
هذه الفترة مهدت لقيام الثورة الفرنسية، وما تلاها من ثورات في القارة الأوروبية، وفي الولايات المتحدة، وأمريكا اللاتينية.
أُطلق على هذا العصر عدة تسميات، منها عصر الأنوار، عصر التنوير، عصر العقل. من أهم مظاهر عصر التنوير قلة عدد الصراعات والحروب الناجمة عن أسباب دينية. ثم بدء استخدام المنهج العلمي في تحليل كل الظواهر الحياتية. وتحقيق تطور كبير في العلوم الطبيعية مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء. وتقدم العلوم الإنسانية خاصة الفلسفة. ثم ترك الجهل والخرافة وامتلاك مناهج علمية وتفكير منطقي. فتطور الأدب والمسرح والترجمة، وظهرت الصحف التي ساهمت في نقل ونشر الأفكار والعلوم والفلسفة. أيضاً انتشرت المدارس والجامعات والمكتبات، وتم تأسيس المقاهي والصالونات الثقافية. مناقشة الأفكار نجم عنه زيادة الوعي المعرفي لدى الناس. كل ذلك أسهم في تنشيط الحركة العلمية التي أنتجت قيام الثورة الصناعية في أوروبا وازدهارها.
الإصلاح الإسلامي بين الفلسفة والدين
في فترة كان الفكر العربي والإسلامي يعاني حالة من الانغلاق والانسداد في المشرق العربي بالقرن الثاني عشر ميلادي، حيث تم زندقة الفلسفة والحط من قدرها، ومحاربة المنطق والعلوم العقلية الأخرى، وجرى تكفير أصحابها حتى قيل “من تمنطق فقد تزندق ودمه حلال”
تصدى صاحب أهم كتب الفقه المقارن “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” الفيلسوف الأندلسي “ابن رشد” 1126ـ1198م للدفاع عن الفلسفة، وهو الرجل العالم بها والمبحر بالدين، فقال “الله لا يمكن أن يعطينا عقولاً، ويعطينا شرائع مخالفة لها” واعتبر أن ما يجري جهلاً بالفلسفة وتجاهلاً للنصوص الدينية التي تدعو إلى إعمال العقل. ثم قام “ابن رشد” بتأليف كتاب “فصل المقال” لفض الاشتباك بين الدين والفلسفة، فاعتبر أن الحكمة هي الفلسفة، والشريعة هي الدين.
ظهرت في العهود اللاحقة محاولات تنويرية دعت للعلم والعقل من دون النزوع عن الدين. قام “محمد علي باشا” عام 1827 ببعض الإصلاحات وأرسل البعثات الطلابية إلى القارة الأوروبية. ثم الشيخ “رفاعة الطهطاوي” الذي كان منبهراً بالغرب، وحاول عام 1842 تأكيد الإيمان الديني للفلاسفة التنويريين الغربيين قياساً على فلاسفة اليونان القدماء، للترغيب فيهم. ثم ظهر “جمال الدين الافغاني” الذي حذّر من الغرب ودعا إلى تجديد الفكر الإسلامي وإنشاء حزب وطني للمسلمين عام 1871. ثم ظهر الشيخ “محمد عبده” واحداً من أبرز المحدثين في الفقه الإسلامي بالعصر الحديث، ودعا عام 1882م إلى الحريات الشخصية والسياسية.
ثم ظهرت تجربة “عبد الرحمن الكواكبي” صاحب كتاب “طبائع الاستبداد ومصاره الاستعباد” مع الإصلاح، هو الذي أسس 1897 جمعية لبحث أسباب الخفوت العربي قياساً بما تقدمت به أوروبا.
ومن خارج الإطار الديني ظهر دعاة تنويريين من المفكرين والمثقفين العرب والمسلمين، منهم “قاسم أمين”، “طه حسين”، “معروف الرصافي”.
المفكر الفلسطيني الليبرالي “إدوارد سعيد” الذي أسس دراسات ما بعد الاستعمار ـ الكولينيالية. والمفكر السوري العلماني “صادق جلال العظم” صاحب كتاب “نقد العقل الديني”،
المفكر والفيلسوف المغربي “محمد عابد الجابري” يعد واحداً من أبرز الوجوه العلمية التي قدمت مقاربة جديدة في قراءة التراث العربي الإسلامي في العصر الحديث. وقاد الجابري مشروعاً مهماً للحفر والبحث والتقصي عن الآليات المنتجة لمضامين ونظم ومعارف الفكر والتراث الإسلامي. فيما المفكر والفيلسوف المغربي “عبد الله العروي” يؤمن بالتاريخانية مذهباً وفلسفةً ومنهجاً للتحليل، وهو بعكس الجابري ينادي بالقطيعة مع التراث العربي والإسلامي، ويتبنى الحداثة الغربية كقيمة إنسانية.
بينما آمن المفكر والفيلسوف الجزائري “محمد أركون” بالحداثة، وانتقد العقل الإسلامي بلسان فرنسي وبعقل استشراقي غربي.
ومن خارج المؤسسة الدينية نذكر المفكر السوري “جورج طرابيشي” صاحب كتاب “نظرية العقل العربي: نقد نقد العقل العربي” الذي يعتبر أنه لم توجد في الاسلام فلسفة وما كان لها أن توجد، وأن المسيحية احتضنت الفلسفة منذ بداياتها.
ولكن من سوء طالع هذه الأمة أن كافة الجهود الني بذلها الأولين تعرضت لانتكاسات على يد الطغاة العرب، والمتشددين، وانتهت مآلاتها إلى غير عودة. وحاربت الأنظمة العربية الاستبدادية الأفكار التنويرية، ولا حقت المفكرين والمثقفين الليبراليين، وفعلت كل ما من شأنه لتقهقر مشاريع التنوير، التي استعاضت عنها تلك الأنظمة البائدة بالأيديولوجيات والقهر الحزبي والسياسي.
التنوير العربي
نجح التنوير في أماكن متعددة في العالم وفشل بنسخته العربية، ولا يزال معظم العالم العربي يرزح تحت وطأة الاستبداد والجهل والخرافة، ولا يزال يحارب الأفكار الليبرالية، وخطاه متعثرة وتائهة ومتباعدة في درب التنوير. ولا يزال العرب غير قادرين على تفكيك العقائد وتحليلها من منظور إسلامي عقلاني، وهذا يحتاج إلى عقود كي يتمكن العرب التحرر من الرؤية القديمة للعالم، ومواجهة الشعوذة، والإيمان بالتفكير العقلي، وإعادة المكانة للفلسفة، لبناء مشروع تنويري عربي.
فشلت جميع الحركات والشخصيات الدينية والمحاولات التي تدعو إلى التنوير كلاً بأسلوبه. بعض هذه الحركات آمنت بالإصلاح الديني، ثم تحولت إلى حركة سياسية، لم تتمكن لأسباب أيديولوجية من بناء نظام اجتماعي واقتصادي لإحداث إصلاحات حقيقية في بنية الفكر والعقل العربي والإسلامي لقيادة نهضة عصرية حقيقية.
يفتقد العالم الإسلامي اليوم رجلاً يفعل ما قام به الفيلسوف الأندلسي التنويري “ابن رشد” في الأندلس، حين قام بترجمة وشرح أعمال أرسطو المعلم الأول، مما ساهم في زيادة تأثيره على أوروبا القرون الوسطى.
ما يعانيه العالمين العربي والإسلامي من تصاعد الطغيان والجور، واتساع رقعة الصراعات الدينية والمذهبية والطائفية، وارتفاع الغلو والتطرف الديني والمذهبي، يتطلب من المفكرين والمثقفين الليبراليين ومن رجال الدين المحدثين العرب والمسلمين، العودة إلى ما قبل ثمانية قرون سابقة، لأنه طوال هذه المدة كان العقل العربي خلالها في حالة سبات وتخدير، وكانت الفلسفة في موت سريري.
نحن ما زلنا لغاية اللحظة لم نتجاوز التساؤلات عن/ حول الدين والفلسفة التي قدمها كلاً من ابن المفقع، وأبو حيان التوحيدي، والرازي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، والكثيرين سواهم، وجميعهم اتهموا بالزندقة والكفر والإلحاد، وبعضهم تم حرق كتبه ومنهم من مات قتلاً.
إن المقاربة الموضوعية حالياً بيننا وبين الغرب، لا تظهر تخلف العرب والمسلمين فلسفياً وفكرياً وعلمياً وتكنولوجياً فقط، بل وتخلفاً في فهم الدين أيضاً.
إن من أهم المقومات التي تقود إلى الإصلاح والتنوير بظني هو أن نفهم الدين الإسلامي فهماً سليماً يتوافق مع العقل ولا يتصادم معه. حيث لا يمكن الحديث عن التنوير في ظل انتشار الجهل والخرافة والسحر والشعوذة وربطها بالدين في العالم العربي. وفي ضوء قيام بعض رجال الدين بتشجيع ما يسمى التدين الشعبي، ومحاربة أية أفكار إصلاحية تلجأ إلى استخدم العقل ـ الذي هو جوهر الدين الإسلامي ـ وتكفير أصحابها وزندقتهم.
فهل أصبح التنوير العربي في ذمة الماضي، وانتقل إلى جوار التاريخ؟
في الحقيقة أن التنوير لم يتجاوزنا ولم نتجاوزه، فنحن لا زلنا متأخرين فلسفياً وعقلياً وفكرياً، وما هذه الانسدادات والتخبطات والصراعات، إلا مرحلة لا بد الاكتواء بنارها من أجل مستقبل أفضل، حسب قانون “هيغل” للتقدم، فالتناقض هو جوهر جميع الظواهر والأشياء وهو منبع كل نمو. لأنه عبر الحركة والصراع الموجودتان في كل شيء يولد الجديد. لذلك فإن التنوير آت، فهو أمام العرب والمسلمين لا خلفهم.