كُتّاب وآراءمجتمع

قراءة في تاريخ شيشاوة منذ ما قبل التاريخ إلى غاية الحكم السعدي

ذ.محمد حبيب الله/ ذ.محسن ريري.

شهدت المنطقة الوسطى الغربية المغربية قدم الاستيطان البشري، منذ حقبة ما قبل التاريخ، أي حوالي 8000 سنة ق.م، وهو ما تزكيه الاستبارات والتنقيبات الأركيولوجية التي أجريت بمنطقة المزوضية التي تبعد عن مراكش بحوالي 45 كيلومترا، حيث تم العثور على بقايا حجرية وأخرى عظمية مختلفة و متنوعة، ما يبرهن على أنه قد عاشت مجموعات بشرية قديمة جدا بمجمل المجال الجغرافي الذي يضم مراكش الحالية و أحوازها، واللقى التي تم العثور عليها عبارة عن أدوات مختلفة تراوحت بين السكاكين وأدوات للخياطة ورفوش فلاحية بدائية بالإضافة إلى رماح وسهام.

في المرحلة القديمة:

المصادر الاغريقية:

تكاد تكون المعطيات التاريخية التي تشير صراحة إلى طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية و السياسية منعدمة بمنطقة شيشاوة خلال الزمن القديم، بيد أنه باعتماد منهج القياس والمقارنة التاريخيين، يمكننا بناء تصور نحاول من خلاله فهم المسار التاريخي للمنطقة وتطوره مما يلزمنا تتبع طبيعة المجتمع الامازيغي الذي ساد خلال الحقبة القديمة والذي تميز ببروز أنظمة قبلية محلية، حسب ما أشار اليه هيرودوت  الذي افاد بأن “الليبيين كونوا إثنية موحدة تتشكل من مجموعة من الاسر التي تجتمع في إطار القبيلة والتي هي بمثابة نواة لكيان سياسي يتمطط ويتقلص حسب الظروف العامة والخاصة التي تمر ببلادهم”.

المصادر اللاتينية:

تحدث بوليبيوس في كتابه “التواريخ” بمنطق عجائبي عن شمال إفريقيا القديم، لا من حيث المعتقدات الدينية، ولا من حيث نمط عيش السكان ولباسهم وطبيعة علاقاتهم الاجتماعية، وزكى سالوستيوس هذا الطرح بأن أورد معلومات تغطي فترة حرب يوغرطة، وفي الاجمال، يرى المؤرخان أن ساكنة المجال المدروس تراوحت معتقداتها الدينية بين عبادة مظاهر الطبيعة، وعبادة الأرواح المستترة وأيضا عبادة الكبش المتوج، بالإضافة إلى الأقلية التي دانت  باليهودية، وانقسم نظامهم الإنتاجي إلى نمطين: قبائل الرحل الذين يرعون قطعانهم في بحث دائم عن الموارد المائية والكلأ، وقسم ثان يعتمد الاستقرار والزراعة، (جدلية الاستقرار والترحال) كما أنهما وصفا طبيعة اللباس الامازيغي الأصيل، والريشة التي تعتلي أعلى رأس الامازيغي، في إشارة إلى مكانته الاجتماعية.

كما أن بيلينوس الشيخ، قد مسح شمال افريقيا القديم في موسوعته الجغرافية، مع ذكره للخصوصيات الجغرافية والمناخية والتضاريسية للمنطقة، ومنتوجاتها الفلاحية، وأهم الأنهار والروافد المائية المتواجدة فيها، بالاستناد إلى الأرشيف الروماني؛ بالإضافة إلى أنه قدم صنفا آخر من المعلومات المتعلقة بمجالات الامازيغ، يطغى عليها الجانب الأسطوري و العجائبي، كونها موطن الالهة الكونية ك الاله انطي، و الاله اطلس التي اخذت منه جبال الاطلس المغربية اسمها، وأن هذا المجال الجغرافي هو حيث توجد حدائق الهيسبيريد، التي حكى حولها قصة التنين حارس حدائق التفاح الذهبي.

إن التصور القديم الذي نسج حول الجهة الغربية من موريطانيا الطنجية ، ومجالات جبال الاطلس عموما، امتزج فيه الخيال بالغموض، الامر الذي أخر اكتشاف جبال الاطلس، والواجهة الأطلسية من موريطانيا الطنجية باتجاه الجنوب من قبل الحضارات الاغريقية والفينيقية والقرطاجية والرومانية، وإن كانت هناك رحلات بحرية، فإنها لم ترتفي إلى مستوى التوغل القاري، بقدر الاكتفاء بالمساحلة، كرحلة “نيكاو” المصري، ورحلة “ستيباس” الفارسي، ثم رحلة “اوتيمين” الاغريقي، ورحلة حانون القرطاجي، ثم رحلة “سكيلاكس” اليوناني، مما شكل تمثلا ضبابيا عند القدامى بخصوص جنوب موريطانيا الطنجية وما يوجد فيها، فرسموا خرائط تبرز قارات، أوربا، آسيا، وليبيا، وأن القارة الأخيرة تحد جنوبا بخط الليمس الذي يعزل القارة الليبية عن امتدادها الصحراوي الذي كان في نظر القدامى مجال الانعدام، المجال الذي حرقه قرص الشمس وجعلت منها نهاية العالم في ناحية الجنوب، وعليه، مما يصعب على الباحث إيجاد الخيط الناظم الذي يرشدنا إلى ربط إقليم شيشاوة الحالي بجذوره الموضوعية والذي بدون شك ساهم في صناعة تاريخه التراكمي منذ الحقب القديمة إلى اليوم.

إن ندرة المعطيات المتعلقة بهذه المنطقة، لا يمنعنا من الحديث المشترك الحضاري بين الشمال و الجنوب، إذ بقدر ما ازدهر الشريط الشمالي بالموريطانيتين )الطنجية والقيصرية( على عدة صعد، بقدر ما يجعل من شيشاوة الحالية قد تبوأت في الماض ي البعيد دو را رياديا على المستوى الاقتصادي، على اعتبار أن موقعها يحكم عليها بالاستراتيجية، فتفرض عليها الجغرافيا أن تكون منطقة عبور إلى تخوم الصحراء الكبرى، التي بدورها ازدهرت فيها ممالك و حضارات افريقية نهلت من الإرث الثقافي من الضفة الشمالية، فنجد على سبيل المثال انتشارا لحرف تيفيناغ منقوشا على الصخور بجبال الاطلس، والنقائش الموجودة بقرطاجة بنفس الحرف كنقيشة دوكا  Thugga المزدوجة والتي كتبت بلغتين متقابلتين ، والتي تعود إلى 138 قبل الميلاد ،المتضمنة لنصين متقابلين أحدهما بتيفيناغ  Libyque والآخر بالحرف البونيقي القرطاجي Punique، كما نجد صحاري إقليم طاطا والهكار وتاسيلي بالجزائر، ثم مالي زاخرة بالنقائش الأمازيغية.

وعليه، يمكن القول على أن منطقة شيشاوة، لعبت دورا هاما بخصوص التبادل الثقافي والاقتصادي الذي يربط الشمال بالجنوب، كما أن بعض القبائل المحلية كانت تمتهن الوساطة التجارية بين الضفة الشمالية وتخوم الصحراء الكبرى، بأن يزودوا الشمال بالسلع ذات الأصل الصحراوي والإفريقي كالخزر والحيوانات المفترسة والعاج ثم التبر، وتحويل السلع الشمالية من جلود وزجاج وأدوات الزينة والاواني الخزفية والارجوان إلى الضفة الصحراوية.

يمكن اعتماد القياس اللساني للاشتقاق اللفظي لتسمية شيشاوة، فهي مشتقة من لفظ سكساوة التي تم تحويرها إلى أشيشاوة، حيث قال الاستاذ إبراهيم آيت باخة “سكساوة مفرد إسكساوان، التي يقال إن أصل تسميتها من “إيسكس” وهو المرعى، من فعل “إكسا” يعني رعى، فيكون معنى إيسكسوان: المراعي، نظرا لاعتماد أهلها على الرعي في تدبير معي شتهم؛ وهذا الطرح يبقى أقرب إلى المنطق، بحكم الامتداد الطبيعي لسكساوة على منطقة سهلية تبدأ بوادي سكساوة شمالا وتنتهي بشيشاوة جنوبا؛ وهو ما أشار اليه جاك

بيرك في كتابه “البنيات الاجتماعية بالأطلس الكبير”؛ إن المعطيات الجغرافية تزكي من جانبها هذا الطرح، إذ أن سكساوة كانت قبيلة مستقرة تمثل التواجد الفيديرالي القبلي لنفيسة، بحيث امتدت على مناطق جبل درن العليا ومصابه المائية ناحيتي الشمال والجنوب، وفي المفاصل المسلكية المؤدية إلى تارودانت عن طريق تيزي نتاست، وطريق أكادير عبر ايمي نتانوت وأركانة، وقد وصف عبد الواحد المراكشي هذه البقعة من الأرض في كتابه المعجب ” أنها قبيلة عزيزة منيعة، لغتها أجود اللغات وأفحصها في ذلك اللسان”.

 في الحقبة الوسيطية:

في عهد الادارسة

تغلغل الإسلام إلى منطقة مقدمة جبال الاطلس وتخومه، سنة 62 هجرية، حيث فتح عقبة بن نافع الفهري المنطقة، يقول ابن خلدون في هذا الصدد: ثم جاء عقبة… ودخل المغرب الأقصى وأطاعته غمارة… ثم جاز إلى وليلي ثم جبل درن، وقاتل المصامدة ، وقد عرفت هذه المناطق الملامح الأولى لتشكل الامارات المستقلة حول الحواضر الكبرى التي اسماها ابن خلدون بإمغارن، ليأتي المولى ادريس الثاني ويفتح ما تبقى من المناطق التي بقيت خارج نطاق الإسلام أو الدولة الادريسية بكل من نفيس والمصامدة سنة 197 هجرية بالإضافة إلى فتح أغمات.

يصف عبد الرحمان بن خلدون حالة الاستقرار التي عرفتها المنطقة عقب الحكم توطيد السلطة الادريسية على المجال، حيث قال: ” يسير الراكب فيها من تامسنا وسواحل مراكش إلى بلاد السوس ودرعة من القبلة ثمانية مراحل… تفجرت فيها الأنهار… وجلل الأرض، وتكاثفت بينها ظلال الدواج، وركبت فيها مواد الزرع والضرع، وانفسحت مسارح الحيوان…ومراتع الصيد وطابت منابت الشجر…ومن قبائل المصامدة أمم لا يحصيهم الا خالقهم، قد اتخذوا المعاقل والحصون وشيدوا المباني والقصور، واستغنوا بقطرهم عن أقطار العالم”… .

في عهد المرابطين:

وصل المرابطون بقيادة كل من ابي بكر عمر اللمتوني وعبد الله بن ياسين الجزولي، إلى شيشاوة وأحوازها سنة 449 هجرية، فتغيرت أحوالها ومعيشها تغيرا جذريا، إذ قال ابن ابي زرع في هذا الصدد: “…ارتحل إلى بلاد المصامدة، ففتح بلاد نفيس…وأتاه رجال رجراجة وحاحة، فبايعوه، واترحل إلى أغمات”.

سيقلب الفتح المرابطي المنطقة قيد الدراسة بشكل جذري، لاسيما قسمها الشمالي من جبل درن، بحيث عرفت فروعا قبيلة عدة اضمحلالا وركودا على المستوى السياس ي و الاقتصادي، بسبب تشييد المرابطين لقاعدتهم بمراكش، وإخلائهم لأغمات التي تحولت مورفولوجيتها العمرانية والاقتصادية و الاجتماعية من طابعها الحضري الاشعاعي، إلى منطقة مهمشة تعرضت فيما بعد للإهمال والتقري (انتقلت من حاضرة إلى قرية)، وعليه، فقد حوصرت منطقة شيشاوة وأحوازها بشكل واضح تقهقرت على إثرها كل المنطقة بقبائلها و بطونها وأفخاذها سياسيا واقتصاديا، ك :كنفيسة وكدميوة واوريكة وهنتاتة ثم هيلانة، باعتبارها شرايين تبادلية وتجارية هامة انفتح عليها مصامدة جبل درن، فإحداث مراكش كان نقطة تحول تاريخ في المنطقة التي حوصرت و خنقت بشكل كبير.

في عهد الموحدين:

لقد كان واضحا مدى امتصاص التواجد المرابطي للبعد الاستراتيجي لحواضر مصمودة، مما خلق حالة ركود و تذمر كانت بمثابة تربة خصبة لانطلاق الشرارات السياسية الأولى للموحدين ودعوتهم التي كانت بقيادة المهدي بن تومرت الذي وضع نصب عينيه تحرير الأرض ومن عليها من المرابطين كونهم ليسوا على الملة من شيء،  وأنه من اللازم انتزاع المشعل التوحيدي من يدهم، لإصلاح امر الرعية ومعيشهم ودينهم ودنياهم، فلجئوا إلى البعد العسكري، فخطط ابن تومرت لتحرير القاعدة المرابطية مراكش، وهذا ما كان له، بأن أحكم تطويقه على هذه المدينة سنة 524 هجرية، معتمدا على العصبية القبيلة المصمودية التي التقت أهدافها مع أهداف المهدي، فكانت قبيلة كنفيسة هي الكونفدرالية الموحدية التي ارتكز عليها ابن تومرت، فاستنفر منهم الجند والاعوان والانصار…من سائر البربر والمصامدة رعية لهم وتحت أمرهم ، فاستطاع الموحدون ضم مراكش سنة 541 هجرية، بعد حصارها عسكريا، ومنعها من التموين زمنا طويلا.

ما يلاحظ في هذا الصدد، هو افول نجم الاتحاديات الكبرى فيما بعد، بعد استفادة الموحدين منهم وتثبيت حكمهم، وتصاعد قوة وتأثير بعض البطون القبيلة الصغرى لدى مصامدة الجبل؛ لقد أنشأ الموحدون امبراطورية واسعة، وهو الامر الذي يحتاج إلى تدبير مالي وبشري واقتصادي وعسكري هام لإدارة شؤونها، لقد كانت القبائل الموحدية السبعة: تنمل، هرغة، هنتاتة، كدميوة، كنفيسة، هزرجة، ووريكة، هي العمود الفقري والخزان البشري الذي يزود الجيش الموحدي بعناصره، كما أضيفت قبيلة ثامنة وهي كومية، لكن ما يُلحظ في هذا السياق استنزاف الإدارة الموحدية لمواردها البشرية لمدة تنيف عن عشرة عقود، الشيء الذي غير البنية الديموغرافية لهذه الفروع القبلية، وتراجعها.

غير أن قبيلة سكساوة، ستبدأ في الظهور في ساحة الاحداث، وقد أشار أبو عبيد البكري إلى هذه القبيلة باسمها محرفا إلى شوشاوة، واصفا إياها بالازدهار واستراتيجية موقعها عند المرابطين ،لأنها اتحاد قبيلتي سكساوة وانفيفة المنحدرتين من كونفدرالية كنفيسة، لم تساهما بشكل كبير في تزويد الجيش بعناصره العسكرية، كما أن كونفدرالية ركراكة قد تغير اسمها إلى الشياضمة، منتصف القرن الثامن عشر، وفي سبب بزوغ نجم سكساوة، واضمحلال كنفيسة، يقول ابن خلدون: …” أوسع بطون كنفيسة سكساوة، وغيرها من بطون كنفيسة، فأفقتهم الدولة بما تولوا من مشايعتها…”، أما سكساوة، فكان لهم بين الموحدين مكان واعتزاز بكثرتهم وغلبهم… غير أنهم كانوا أهل بدو ولم يخالطوهم في ترفهم”….

في العهد المريني

بعد ضعف الموحدين، وأفول نجمهم، تولى المرينيون زمام أمر البلاد والعباد، ونحن في هذا المقام لسنا نهدف إلى الوقوف على العلل والأسباب الكامنة وراء انهيار الدولة الموحدية، بقدر ما نروم تتبع الخيوط الناظمة لتطور إقليم شيشاوة عبر مسيرته التاريخية؛ فقد تولى المرينيون مقاليد الحكم، واضعين تصورهم الخاص لإدارة البلاد، فكان نمطا يختلف عما قبلهم من دولة، غير أن الملاحظ هو اثقالهم كاهل السكان بالجبايات المجحفة، وضربوا حصارا خانقا على منطقة جبل درن، فما لبثوا أن اطاعوهم، فعزلت شيشاوة عن امتدادها الجبلي المتمثل في سكساوة، محولين المناطق الجبلية المحيطة بالسهل إلى نقاط مراقبة لمصامدة الجبل وبالخصوص سكساوة التي أمست قوية،  والتي أصبحت بمثابة مملكة وراثية، وغدت منارة علمية يحج اليها العلماء والطلاب والمتصوفة من كل حدب وصوب، كحدو بن يوسف، والصالحة عزيزة السكسيوية ، كما كانت ملجأ آمنا لكل طالب للأمن أو مارق عن السلطة المرينية، فهي بالنظر إلى موقعها المحصن طبيعيا، كانت تتمتع باستقلال شبه كلي عن السلطة المركزية المرينية، وهذا لم يمنع المرينيين من فرض حصار تلو الآخر على المنطقة، لكنهم لم يفلحوا في ذلك إلى أن قام السلطان يعقوب بن عبد الحق المريني الذي عسكر بجيوشه في هنفيفة سنة 677 هجرية، في زعزع أركان القبيلة المذكورة،   وأبو ثابت عامر بن عبد الله المريني الذي ضرب حصارا عسكريا على تامزوارت سنة 706 هجرية ودخل سكساوة، حيث بايعه عبد الله السكسيوي.

استحكم أمراء هنتاتة على أمور المصامدة، بعدما انقلبت الأوضاع السياسية على إثر انهيار سلطة المرينيين المركزية، فصعد الوطاسيون الذين والاهم هؤلاء الأمراء، في تزامن مع بدايات تغلغل البرتغاليين عبر المراكز الساحلية المغربية؛ وعليه، فقد تميزت العهد الوطاسي بالضعف، حيث لم يستطيعوا دفع الهجومات البرتغالية، كما أن شيشاوة وأحوازها كان دورها باهتا في صناعة التاريخ الوطاسي، فربما كان ذلك مقصودا لا سيما وأنها المنطقة كان لها اشعاع في دول المغرب السابقة، لاسيما القوة التي كانت تتميز بها سكساوة؛ وعلى إثر الحركية المتسارعة على مستوى الأحداث التاريخية، والاضطرابات الداخلية، وضعف السلطة الوطاسية، التي كانت لها تداعيات دينية واقتصادية واجتماعية وثقافية، سقطت المراكز الساحلية تباعا في يد البرتغال، خصوصا سواحل سوس، الأمر الذي سوغ لظهور حركة سياسية جديدة تدفع الغزو الإيبيري للسواحل والمناطق الداخلية تحت قيادة السيخ محمد بن سليمان الجزولي الذي وضع أسس الدولية السعدية، حيث بويع على الجهاد سنة 916هجرية/1509م.

في العهد السعدي:

انطلقت حملة الجزولي في جهادها ضد المسيحيين من سوس، باتجاه حاحا والشياظمة، وتلاه ابنه أبو العباس الاعرج الذي استكمل مشروع والده الجهادي، إذ كبد البرتغاليين خسائر فادحة بحاحا والشياظمة ،ودخل مراكش سنة 930هجرية/1523م، لقد كان لمراكش مكانة تاريخية واستراتيجية اججت أطماع الايبيريين، إلى جانب مراكز مهمة بالأطلس الكبير الغربي وشيشاوة، لقد أخضع الاعرج أيضا أمراء هنتاتة المسيطرين على مراكش والحوز ونواحي جبل در ن، فدخلت بالتالي شيشاوة وكل مناطق السفح الشمالي لجبل درن تحت النفوذ السعدي، بعدما كانت هدفا مباشرا للهجمات البرتغالية التي لا تبقي ولا تذر، وأرعبت البلاد والعباد، بالتدمير والتخريب، كان البرتغاليون يتقاطرون على المنطقة عبر مرافئ اسفي وموكادور، ويلجئون إلى استراتيجية حرب العصابات، فيسرقون وينهبون والماشية والمحاصيل والممتلكات، ويختطفون السكان لبيعهم كعبيد في البرتغال، هدفهم الأول والأخير الاغتناء السريع، لان المغاربة كانوا يباعون بثمن باهض باعتبارهم سلعة جيدة.

لقد محا البرتغاليون مآثر مدن وحواضر بأكملها، بكل من تادنست وقلعة المريد، وبمنطقة تاكوليت، فدمر البرتغاليون بالتالي كل النسيج الثقافي للمنطقة والإبادة الجماعية للسكان، وموروثهم الحضاري والتراثي، مما أجج روح الانتماء إلى القبيلة  وإلى الأرض، فظهرت في المس رح قبيلة أولاد ابي السباع، في عهد القائم بأمر الله السعدي، اعلاء لراية الجهاد ضد البرتغال، انطلاقا من سوس، فوقع اصطدام مباشر بينهم وبين البرتغاليين بتدسنت سنة 1514م، نهج فيها البرتغالي و ن سياسة المباغتة وحرب العصابات بقيادة فيرنانديز ديتاي، ومينيزيس، بمساعدة بعض العملاء المغاربة، من جهة، وبين الشريف محمد القائم بأمر الله وفيالقه القبيلية، غير أن المعركة تمخضت عن احتلال المدينة من طرف البرتغال، بحيث تراجع القائم بأمر الله إلى الجبال بفيالقه، مواصلا الاغارة على الوحدات البرتغالية ومقاومة هجوماتهم، إلى أن نجح السعديون في استرجاع تدنست، يروى أن سلسلة المعارك بين السعديين والبرتغال، قد خلفت حصيلة بشرية ومادية ثقيلتين، لدرجة أن الرواية الشفوية تتحدث عن أن زاوية الخناك كانت بمثابة مقبرة جماعية للمقاومين، ما يؤشر على همجية البرتغاليين، الامر الذي دفع بقبيلة شيشاوة، أسوة بقبائل أخرى ومجاورة، للنزوح الجماعي من مجالاتهم باتخاذ مناطق جبلية مستقرا لهم وموطنا مؤقتا لهم، غير انهم عانوا من شظف العيش بالنظر إلى نمط العيش الجبلي القاسي، فحفزهم ذلك على الالتفاف بقبائل أخرى نازحة معهم لمقاومة العدو البرتغالي، كركراكة وحاحة وأولاد بو سباع، تؤطرهم مجموعة من العلماء والمتصوفة كسيدي غانم السباعي، وعبد الله بن ساسي وسيدي عبد المالك السباعي، الذي استشهد في معركة ضد البرتغاليين الذين ما انفكوا يطاردون المجاهدين المغاربة صيفا وشتاء، وتمادوا في المناوشات إلى أن هاجموا مراكش سنة 920 هجرية/1514ميلادية، مما أدى إلى استنجاد المراكشيين بالقائم بأمر الله رفقة الأمير أبي العباس أحمد الاعرج، فوضع القائم بأمر الله شؤون السوس، بما فيها امر الجهاد ضد البرتغاليين فيه، بيد ابنه الأصغر محمد الشيخ المهدي، الا أن المنية باغتت القائم بأمر الله، فتولى بعده أحمد الاعرج زمام الأمور، وشن غارات جهادية على البرتغاليين وعملائهم المغاربة سواء بالسواحل أو بالمناطق الداخلية ،إلى أن دخل مراكش سنة 930 ه/1524م، ونصر عصبة هنتاتة بأن دفع عنهم الغارات البرتغالية، فدخل القسم الشمالي للأطلس الكبير تحت إمرته.

تنازع ابنا السلطان القائم بأمر الله، أحمد الاعرج، والشيخ المهدي على الحكم إثر وفاته، وهنا نلمس أن قوة الدولة تقاس بمدى قوة السلطان الحاكم ،التي تظهر عند وفاته، وقد آل الحكم في النهاية للشيخ المهدي سنة 946ه/ 1540م، وقد عرف عهده اضطرابات وثورات قبائل انفيفة التي كانت مؤيدة لأخيه الاعرج ،بزعامة الشيخ المرابط سيدي عبد الله ، وامتدت الثورة الى كل احواز شيشاوة ،فأخمدها المهدي بقوة السيف مستعينا بفلول المرتزقة العثمانيين وبعض النصارى، فأثخن فيهم السيف حتى كاد الجبل يخلو من سكانه ، بسبب أن القبائل لطالما تشبثت بالأعرج الذي عرف ببسالته في قتال البرتغاليين في مجالهم القبلي، وفي بلاد سوس، وبسبب عصيان انفيفة لحكم المهدي أضف الى ذلك إثقال كاهل السكان بالمجابي.

أثار ما سلف ثائرة الشيخ سيدي عبد الله الذي جهز حملة قمعية على المستوى الاقتصادي لسكان شيشاوة ودمسيرة، وأخرى جبائية، ثم إعمال سيفه فيهم، وتبقى حركة محمد الشيخ السعدي من مراكش باتجاه جبال دمسيرة سنة 963ه/ 1557م، الأخيرة، بحيث أدت إلى اغتياله بعد تربص مرتزقة العثمانيين به وجز رأسه؛ وعلى العموم كان العهد السعدي عهد تقلبات عسكرية وسياسية عنيفة، امتزجت فيها السلطة بالاقتصاد، ويتضح ذلك من خلال بصم احمد المنصور السعدي تاريخ المنطقة المدروسة، لاسيما بعد استقراره بإمنتانوت لمدة تنيف عن السنة، وجعلها قاعدة تنطلق منها حملاته العسكرية، وبفعل غنى المنطقة وتوفرها على سهول شاسعة وخصبة، ومنطقة عبور للقوافل التجارية من وإلى الصحراء والسودان، وأهمية زراعة قصب السكر، ازدهرت المنطقة وذاع صيتها في صناعة السكر وإنشاء معامله بكل من الثالوث حاحا وتار ودانت ثم شيشاوة، ما يلاحظ أن الامراء السعديين شددوا خناقهم على الزوايا وحاصروا شيوخها ومتصوفتها، بغية عزل الصحراء وبلاد السودان عن التأثير الصوفي المغربي، مما قد يؤدي إلى التأثير سلبيا على التجارة العابرة للصحراء، لاسيما اقتصاد الذهب، الامر الذي قد يسبب في تهديد اقتصاد المخزن.

انتعشت زراعة قصب السكر انتعاشا منقطع النظير بالمناطق الواقعة بمحاذاة الشريط الأطلنتي، وصولا إلى منطقة سيدي شيكر بآسفي، وبمنطقة شيشاوة، في المكان المحدد بنصف المسافة الفاصلة بين موكادور (الصويرة) ومراكش، وهذه صور توضيحية لآثار معامل انتاج السكر خلال العهد السعدي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى