جرائم القتل والاغتصاب .. تكشف الموت الأخلاقي الذي نتستر عنه “الحزء الأول”
دنيا الحبشي.
“عالما الليل و النهار ،عالمان مختلفان جدا قادمان من قطبين متقابلين و ممتزجان في ذلك الحين. كان بيت والدي يشكل عالما لكن حدوده ضيقة و كان هذا العالم أليفا بالنسبة لي…أم و أب حب وصرامة سلوك مثالي و مدرسة ، هو عالم من البهاء و النقاء و النظافة… و الأحاديث اللطيفة و الأخلاق الحميدة…فإذا كان المرء راغبا في حياة نظيفة و منتظمة فإنه واثق من تحقق ذلك في الارتباط بهذا العالم .
إلا أن العالم الآخر الذي يتجاوز نصف بيتنا كان مختلفا جدا، رائحته مختلفة ،ولغته مختلفة يعد و يطالب بأمور مختلفة ” عرى الفيلسوف هرمان هيسه من خلال هذا المقتطف من روايته “دميان” على واقع حالنا الآني ، فالعالم الخارجي الذي يتعدى حدود بيت الطفل و المرأة أضحى أكثر وحشية من ذي قبل، وهذا ما تؤكده العديد من الظواهر الإجرامية المتوالية من بينها واقعة هتك عرض و قتل الطفل عدنان ، و كذا قتل الطفلة نعيمة ، و لا ننسى واقعة إغتصاب فتيات سلا و المقرونة بالإفتضاض و العنف وأيضا العديد من الوقائع الأخرى ،ومما لا شك فيه أن هذه الوقائع خرجت عن دائرة المسكوت عنه حيث رصدتها كاميرات الإعلام و الصحافة .
لكن ما يخفيه واقع الحال أعظم و أبشع فالعديد من الجرائم أبطالها آباء و أقارب ، فالمقربون اليوم أصبحوا أكثر تهديدا للأمن الروحي و الأخلاقي للطفل و المرأة ، فاستبيح بذلك الفضاء الخاص الآمن و الحامي لهما ، واستبيح معه جسدهما ،و ما يكرس هذا الواقع الرقم الذي أعطته جمعية “ماتقيسش ولدي” وهو 26000 طفل يتم إغتصابهم سنويا أي ما يعادل 71 طفل يوميا ، من بينهم 81% من الجناة كلهم أقارب لهؤلاء الأطفال المغتصبون ، وكما هو معلوم دائما هناك رقم أسود للجرائم يخفيه منطق الفضيحة و العار .
فالأمن الأسري و المجتمعي ينتحر ويموت بالتقسيط ، ذلك أن العالم الأسري اليوم لا يقل خطورة عن العالم الخارجي وبذلك أصبحت تحكمنا و من جديد قولة سارتر الشهيرة ” الآخرون هم الجحيم ” كيف ما كان هذا الآخر قريبا أم غريبا.
وقد تفاعل المجتمع مع هذه الوقائع بقوة كما عرف حملة واسعة من الإستنكار و الإستهجان لها عبر مواقع التواصل الإجتماعي ، لكن كيف يقارب المجتمع هذه الوقائع ؟ و هل يستقيم الحديث عنها في مواقع التواصل الإجتماعي فحسب ؟ وما طبيعة و مستويات الجدل الذي فجرته هذه الوقائع ؟
المثير في هذا التفاعل و الإستنكار المجتمعي إختلاف مستويات الجدل حول هذه الوقائع ، حيث عندما تعلق الأمر بقضية الطفل عدنان إستنكر المجتمع من أعماقه هذه الواقعة وكانت إرادته أقوى في التصدي لها، حيث طالب بالإعدام أي ضرب بيد من حديد رغم أن أركان هذه الجريمة لم تكن محددة و واضحة، كما أن السلطة القضائية لم تكن قد أعطت بعد التكييف التشريعي للفعل الإجرامي ، و رغم أن الفصول المفترضة لتكييف هذا الفعل تنص على عقوبة الإعدام إلا أن المجتمع طالب بها وبقوة ، أما عندما تعلق الأمر بقضية قتل الطفلة نعيمة فقد طالب المجتمع بنفس العقوبة، لكن هذه المرة ليست بنفس الحدة وليست بنفس التفاعل، فما الخطب !!!
أما بخصوص واقعة إختطاف فتيات سلا و تعنيفهن و إغتصابهن و كذا فض بكارتهن فقد حضيت بإهتمام الرأي العام أيضا ، لكن لم يطالب المجتمع بخصوصها بالحكم بالإعدام ، و اكتفى بإستنكارها والمطالبة بالمحاكمة العادلة رغم أن الفصول المفترضة لتكييف هذه الواقعة لا تنص على عقوبة الإعدام رغم بشاعتها، فالمجتمع تعاطف بشكل أقوى عندما تعلق الأمر بضحية ذكر وليست أنثى ، وكأنه يستبيح جسد المرأة تشبتا منه بالذاكرة المجتمعية الذكورية ، و تكريسا للصور النمطية التي تبيح هذا الجسد و تجرده من معناه الثقافي وتمثله كجسد جنسي فحسب بمعنى جنسنة المرأة.
وقد نسي المجتمع أن الإعتداء مرفوض في كل الأحوال، سواء كانت الضحية ذكرا أم أنثى و أن هؤلاء الضحايا يتم إعدام وجودهم في كل هذه الوقائع رغم إختلاف النشاط الإجرامي المادي و النتيجة الإجرامية ، ولذلك يجب أن يستنكر المجتمع هذه الوقائع بنفس الحدة و لا يفرق بين جنس الضحية ذكرا كانت أم أنثى .
إن تفاعل المجتمع عبر وسائل التواصل الإجتماعي مع هذه الوقائع من خلال مستويات مختلفة و متباينة هو نتاج للمجتمع ذاته و شبيها له ، فهو نسخة طبق الأصل لما يوجد في الواقع حيث أن الواقع يحوي الكثير من العنف و الإنتهازية و التمييز و كذا التربية الذكورية ، الأمر ذاته تتضمنه تدوينات وسائل التواصل الإجتماعي وتخفيه في العمق إلا أن هذا التوتر الرقمي يتحول إلى جمود على مستوى الواقع مما يعطي للمنصات الرقمية حجما أكبر من حجمها الحقيقي ، وكأنها صاحبة التغيير الجذري في حين أن توترنا الحاد فيها و جمودنا الواقعي يبني سورا بيننا و بين التغيير المستهذف فكفانا تطبيلا فيها .
إن تناسل و تواتر هذه الوقائع يفضحنا و يعري عن ملامح وجهنا البئيس ، ويكشف عن الموت الأخلاقي الذي نتستر عنه و نستبطنه داخلنا فالكثير من الوقائع نظن أن معالجتها تتم بتركها، حيث نتمثل المجتمع في تصور ذهني واضح يتحدد بين الواجب والمثالي مما جعلنا نرفض الواقع أي ما هو كائن فلانعالجه، ولذلك يجب أن يتكسر جدار الصمت المفزع لمواجهة هذه الجرائم والتصدي لها ولن يتم ذلك إلا بالإعتراف الصريح و الضمني بأن هذا المجتمع عرف تحولات و تطورات سوسيولوجية و ديمغرافية مهمة تحتم علينا القيام بعدة دراسات وقراءات نفسية إجتماعية وإعتماد مقاربات علاجية و وقائية شاملة فالأزمة أعقد من أن تحل بمقصلة الإعدام ومن أن تختزل في الجاني.